Karl Sharro

Articles

Blog

Contact

Home

News

About

محكمة الحريري: القضاء على السيادة؟

أفكار حول المحكمة الخاصة بلبنان

 

في الأول من آذار باشرت المحكمة الخاصة بلبنان إعمالها في لاهاي، و مهمتها محاكمة المسئولين عن اغتيال رئيس الوزراء السابق في لبنان رفيق الحريري.تمثل المحكمة خطوة أخرى في اتجاه تعزيز منطق التدخل الدولي الذي بدأ مع اتفاق دايتون. ستناط لأول مرة بمحكمة جنائية دولية مسئولية محاكمة جريمة إرهابية ضد شخص معين. هل قايض اللبنانيون السيادة بالعدالة عندما طالبوا بهذه المحكمة؟ وهل سنرى المجتمع الدولي والغرب بشكل خاص يلعب دور متزايد في التدخل واستخدام أدوات للعدالة الدولية لتحقيق غايات سياسية؟ في ما يلي ، وصف للأحداث التي أدت إلى تأسيس المحكمة ، ونقاشها بوصفها عارض من أعراض الضياع الذي يصيب السياسة اليوم، حيث تنحسر السيادة و إرادة تقرير المصير لصالح النزعات القطعية التي تخنق التنمية السياسية للمجتمعات.

في 14 شباط 2005 ، استهدف انفجار كبير موكب الرئيس السابق لوزراء لبنان رفيق الحريري أثناء مروره على الطريق البحري في بيروت ، مما أدى إلى استشهاده و 22 آخرين وجرح أكثر من 100 شخص. أدت عملية الاغتيال إلى سلسلة من الأحداث التي آلت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، بعد ثلاثة عقود من دخولها كجزء من قوات الردع العربية. تجلت النتائج السياسية للاغتيال سريعا ، فألبت شرائح كبيرة من المجتمع اللبناني ضد سوريا وأدت إلى إعادة تنظيم جذري للتحالفات التي تحكم السياسة اللبنانية. وضع المجتمع الدولي يده على الجوانب القانونية للتحقيق في مرحلة مبكرة ، وبموافقة من تحالف 14 آذار المعارض لسوريا و الذي التأمت صفوفه في أعقاب عملية الاغتيال. فاز هذا التحالف لاحقا بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي جرت في أيار 2005.

في البداية، نص قرار مجلس الأمن الدولي 1595 على إنشاء بعثة دولية للتحقيق في جريمة القتل، رأسها قاضي ألماني ثم  أخر بلجيكي. ونصّ اتفاق لاحق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة غلى إقامة المحكمة الخاصة بلبنان بهدف محاكمة المسئولين عن الاغتيال. بسبب تورط سوريا المشتبه في عملية الاغتيال، رأى الكثيرون في ذلك الوقت إن إنشاء محكمة دولية من شأنه أن يكون أكثر فعالية من المحاكم اللبنانية، سواء من حيث استدعاء الشهود واحتمال مقاضاة المسئولين اللبنانيين والسوريين الذين قد يكونون متورطين. من السابق لأوانه الجزم بأن المحكمة ستمثل أداء ناجح للعدالة الدولية ، ولكن هناك أسئلة خطيرة تطرحها هذه المحكمة على السياسة اللبنانية خصوصا في شان التآكل المستمر للسيادة الذي تؤدي إليه التدخلات الدولية.

أصبحت علاقة الحريري مع سوريا متوترة جدا في الأشهر السابقة لاغتياله، وذلك بسبب إصرار سوريا على تمديد رئاسة  حليفها إميل لحود لمدة 3 سنوات في مخالفة صريحة للدستور اللبناني. اشتبهت سوريا بان الحريري سعى سرا لكسب التأييد في مجلس الأمن الدولي للقرار 1559 الذي يدعو إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، في انتقاد واضح للدور الذي كانت تلعبه سوريا في لبنان. في آذار، بعد بضعة أسابيع من الاغتيال ، كشف تقرير أول بعثة لتقصي الحقائق للأمم المتحدة بأن الرئيس السوري بشار الأسد قد هدد السيد الحريري بالضرر  إذا ما استمر في معارضة سياسته في لبنان ولكن التقرير لم يلقي اللوم على سوريا في عملية الاغتيال بشكل صريح. (1) رفض سوريا للتعاون مع فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة عزز شكوك غالبية اللبنانيين بأنها مسئولة عن عملية الاغتيال، و قام حلفاء الحريري السياسيون، وكثير منهم كان قريبا من القيادة السورية لسنوات، باتهام سوريا علنا بتنفيذ عملية الاغتيال.(2)

في الأيام التي تلت عملية الاغتيال، تجمع الآلاف من المتظاهرين في وسط بيروت للمطالبة بالانسحاب السوري من لبنان، مما عرف لاحقا بثورة الأرز. رأى الكثير من اللبنانيين أن سوريا تجاوزت كل الخطوط باغتيال الحريري. في الأيام الأولى كانت المظاهرات عفوية في طبيعتها، ومثلت لفترة قصيرة إمكانية تغيير سياسي جذري في لبنان. تدفق الكثير من الذين كانوا غير مبالين بالسياسة لمدة طويلة إلى وسط المدينة للمطالبة بالتغيير السياسي مدفوعين بالغضب. تسارعت الأحداث بعد ذلك ، بدءا باستقالة الحكومة المؤيدة لسوريا ، وانتهاء الانسحاب السوري الكامل بحلول نيسان.  نجحت الثورة ولكن، كما تبدى لاحقا، بحدود.

بدا فيما بعد إن التظاهرات الشعبية كانت الجانب الأسهل من عملية التغيير، فغضب العامة وحده لا يعني ثورة حقيقية. في الأسابيع التي تلت، بدا أن لا قيادات جديدة ستنشأ لتحكم السيطرة على هذه اللحظة التاريخية، وعادت الزعامات التي خاضت الحرب الأهلية إلى قيادة طوائفها و أحزابها. مثّل رفيق الحريري استثناء في صفوف الطبقة السياسية اللبنانية، لم يصل إلى السلطة عن طريق الوراثة أو قيادة واحدة من الميليشيات المتحاربة أثناء الحرب الأهلية. كان الحريري عصامي هاجر في وقت مبكر من حياته إلى المملكة العربية السعودية وأصبح رجل أعمال ناجح جدا في قطاعي البناء و الاتصالات. ولكن في عالم السياسة اللبنانية، وجد الحريري نفسه بين زعماء الميليشيات و الطوائف الذين يشكلون قادة الطبقة السياسية. استمر هؤلاء بزعاماتهم بعد وفاته، بعد إعادة ترتيب جذرية لتحالفاتهم و ولائهم لتلاءم احتياجات اللحظة الجديدة.

يجب عدم التقليل من الأهمية السياسية لثورة الأرز ولكن من المهم أيضا أن نفهم الأسباب التي ساهمت في فشلها بتغيير الدينامكية السياسية في لبنان. كان لهذا الفشل عواقب وخيمة تتجلى اليوم في الركود الذي يشل الحياة السياسية في لبنان، واستنساخ مكونات النموذج السياسي الذي خنق الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها. هذا النموذج يمكن أن ينظر إليه على انه مفهوم التعددية الثقافية بشكله الأقصى من الناحيتين القانونية والسياسية (3)، يجعل لبنان ديمقراطية طوائف لا ديمقراطية أفراد لهم حرية اختيار انتماءاتهم السياسية. شكل التفاعل بين هذه الجماعات تاريخ لبنان منذ استقلاله، فترات سلام ورخاء عندما تعثر على ترتيبات مناسبة لحماية مصالحها ، تتخللها فترات من عدم الاستقرار عند فشل هذه الترتيبات بإرضاء جميع الفئات. هذا النمط لم يتغير في أعقاب ثورة الأرز، فقط العلاقات بين هذه الجماعات تغيرت.

من السمات المهمة الأخرى لهذا النموذج السياسي العلاقة بين هذه الجماعات و اللاعبين الإقليميين والدوليين على حسب التسمية اللبنانية الشائعة. في منتصف القرن التاسع عشر ، طورت الجماعات الطائفية اللبنانية علاقاتها بشكل واضح مع بلدان أخرى. الموارنة على سبيل المثال أنشوا علاقات قوية مع فرنسا حققت الكثير من الفوائد لهم في ظل الانتداب الفرنسي (1920-1946)  وبعد الاستقلال. في المقابل مد السنة إبصارهم شرقا إلى المسلمين في مصر و سوريا. 1982. المجموعات المختلفة باستمرار الاستفادة من هذه القوى الخارجية لزيادة نفوذها السياسي ، أحيانا بنتائج كارثية، مثل التحالف بين الميليشيات المسيحية و إسرائيل  خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982. بهذا المنحى، لم تحدث ثورة الأرز تغييرا جذريا في هذا النمط، أو تعلم اللبنانيين عدم الاعتماد على القوى الخارجية، اكتفت باستبدال القوى الأجنبية التي تفضل التعامل معها.

لا تسمح علاقات السلطة المنظمة طائفيا و المراهقة السياسية لتلك الطوائف في علاقاتها مع الخارج المدعو باستمرار للتوسط و التدخل بإحداث تغيير سياسي جذري. بدا واضحا بسرعة في أعقاب اغتيال الحريري و الانسحاب السوري. هذه السلسلة من الأحداث أدت إلى إنتاج جماعتي 8 و 14 آذار المتنافستين على حلبة السياسة اللبنانية التي تشكلت نواتهما خلال الأسبوع الثاني من شهر آذار  2005 الذي شهد حرب الحشود في بيروت. حشد حلفاء سوريا المقربين، وفي مقدمتهم حزب الله وحركة أمل وبعض الأحزاب الصغيرة، جموعهم في وسط المدينة كحفلة وداع للجيش السوري المنسحب. رد معارضي سوريا بحشد أكبر للتدليل على حجم جمهورهم. خلال السنوات الأربع الماضية، حددت المنافسة بين هاتين المجموعتين طبيعة الحياة السياسية في لبنان. الفارق الأوضح بين هذين التحالفين هو علاقتهما الخارجية: يتمتع حزب الله وحلفاؤه برعاية سوريا وإيران، بينما يعتبر فريق 14 آذار حليفا للغرب والدول العربية الكبرى.

على الرغم من فوز المعسكر المناهض لسوريا بالغالبية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أيار 2005، لم يتح له معارضيه ترجمة ذلك إلى ولاية فعالة في السلطة. في تموز 2006 شنت إسرائيل حربا  استمرت شهرا على لبنان، بعدما قام  حزب الله باختطاف اثنين من جنودها ، مما أدى إلى دمار هائل وخسائر كبيرة في الأرواح و الممتلكات. انتشى حزب الله بالدعم الذي حظي فيه في أعقاب تلك الحرب، وأقدم مع حلفائه على تصعيد معارضته للقوى المناهضة لسوريا، رغم انه انضم إلى حكومة وحدة وطنية معهم في أول حكومة تشكلت بعد الانسحاب السوري. في 13 تشرين الثاني 2006 ،استقال وزراء حزب الله وحلفائهم من الحكومة قبيل مناقشة قرار إنشاء المحكمة الدولية. بدا تحرك حزب الله كأنه يصب في مصلحة سوريا، في محاولة لعرقلة إنشاء المحكمة الدولية مما هدد بمزيد من زعزعة الاستقرار. لكن الحزب كان له حساباته الخاصة أيضا.

في كانون الأول ، قام تحالف 8 آذار بقيادة حزب الله باحتلال وسط بيروت، وأقام معسكرات لمؤيديه لمحاصرة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة في مقره الرسمي و للمطالبة باستقالة الحكومة. اختيار موقع المعسكر لم يكن مصادفة، بل كان له دلالات رمزية واعتبارات عملية. إعادة أعمار وسط المدينة الذي كان قد دمر تماما خلال خمسة عشر عاما من الحرب الأهلية واحد من أكبر إنجازات الحريري. افتقدت بيروت لسنوات مركزها التاريخي، جيل بأكمله نشأ من غير أن يعرف هذا الجزء الحيوي من المدينة. أطلق الحريري واحد من أضخم مشاريع إعادة أعمار المدن، بأسلوب لم يخلو من الكثير من الجدل، وتمكن في غضون بضع سنوات من إعادة الحياة إلى وسط المدينة. اختفت أكوام الركام المغطاة بالإعشاب البرية، وعاد الوسط إلى سالف عهده منطقة مزدحمة تأوي  الحكومة والبرلمان و شارع المصارف ومنطقة ترفيهية مزدهرة. تسبب معسكر حزب الله بشلل هذه الأنشطة كافة بعدما اتخذ  المدينة رهينة سعيا إلى الحصول على مطالبه السياسية.

المواجهة بين حزب الله وتحالف 14 آذار أبدت مجددا افتقار جميع الأحزاب السياسية في لبنان إلى إرادة تقرير المصير. من الواضح أن حزب الله دفع البلاد نحو الركود الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي، ولكنه لم يمتلك مشروع تغيير حقيقي كما أثبتت الأحداث اللاحقة. أراد الحزب في المقام الأول إعادة التفاوض على شروط مشاركته في النظام السياسي اللبناني، وليس تغيير هذا النظام بأكمله كما ادعى البعض من داخل الحزب و خارجه. وفي موازاة ذلك، أراد الحزب إبقاء السياسة الخارجية للبنان متفقة مع الأهداف الإيرانية والسورية، وليس السياسة السعودية أو الأمريكية. فضل التحالف المؤيد للغرب من جهته إن يطالب المجتمع الدولي بتحقيق العدالة، و طالب البعض في صفوفه بتدخل الأميركيين والغرب لإزالة النظام الحاكم في سوريا. مرة أخرى اعتمدت الفصائل اللبنانية على القوى الخارجية لتحل مشاكلها. أدى ذلك إلى الفشل في التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة ، وبدا أن إرث 'ثورة الأرز' سيكون معسكرين سياسيين متنافسين لا مجال لمصالحتهما.

شلّ حزب الله وسط مدينة بيروت لعام ونصف العام، و شلّ بذلك الحياة السياسية في لبنان. في تشرين الثاني  2007 انتهت  ولاية الرئيس لحود غير الدستورية، ولكن حزب الله وحلفائه قطعا الطريق علي محاولات انتخاب خلف له ، على الرغم من أن البديل قد تم الاتفاق عليه. وصلت الأمور إلى طريق مسدود بعد بضعة أشهر، بينما كانت البلاد تعاني من فراغ دستوري إلى جانب المشاكل السياسية والصعوبات الاقتصادية. في أيار 2008، تحولت مظاهرة عمالية إلى سلسلة من المواجهات المسلحة التي سرعان ما أدت إلى سيطرة حزب الله على بيروت واستعراض ميليشياته لأسلحتها في الشوارع. تحالف 14 آذار مواجهة عسكرية لم يكن يريد خوضها ولم يكن في أي حال مسلحا لها. لم يف حزب الله بوعده بعدم استخدام سلاحه ضد الأطراف اللبنانية الأخرى، رغم أن ذريعته للإبقاء على قدراته العسكرية كانت دائما مقاومة إسرائيل.

مرّة أخرى بحث اللبنانيون عن جهة خارجية لتخرجهم من مأزقهم. هذه المرة جاء العون من دولة قطر التي استضافت ممثلين للفصائل اللبنانية لمحادثات انتهت باتفاق الدوحة الذي مهد الطريق لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. انتزع حزب الله وحلفاؤه تنازلات كبيرة من الائتلاف الحاكم : حق رفض القرارات الرئيسية في الحكومة التي ستتمثل فيها بثلث أعضائها. ضحّى تحالف 14 آذار فعليا بأغلبيته البرلمانية، فغالبيته الحكومية لن تسمح له بتمرير قرارات من دون موافقة حزب الله. شكل هذا سابقة خطيرة من شأنها تعزيز مفهوم لبنان كديمقراطية طوائف، فحجم التمثيل النيابي لن يتساوى بعد ألان مع مقدار السلطة السياسية.

يتحضر المعسكران للانتخابات البرلمانية يوم الأحد المقبل. زادت الأحداث التي وقعت في السنوات القليلة الماضية الانقسامات الطائفية وأعطت قادة الطوائف تأييد لا نظير له لدى إتباعهم. نتائج الانتخابات يمكن توقعها إلى حد كبير، سيقترع السنة والشيعة والدروز لزعمائهم المعروفين وستنحسر المعركة على أصوات بعض المسيحيين الذين سيرجحون كفة فريق على الأخر لحيازة الغالبية البرلمانية. بصرف النظر عن النتيجة النهائية، سيجد حزب الله نفسه مرة أخرى في مجلس الوزراء مسلحا بحق الفيتو على قراراته، الحق الذي انتزعه بوصفه ممثل طائفة كبيرة في لبنان. حصل اللبنانيون على استقلالهم من سوريا عبر 'ثورة الأرز' ، ولكنهم في المقابل اكتسبوا تبعية أكثر سوئا. ارتفعت مكانة الطوائف على حساب الأحزاب السياسية ، مصادرة الطاقات السياسية لمجتمعها وشكلت انتماءات واضحة لقوى خارجية.

تصرفات الغرب منذ نهاية الحرب الباردة قد عززت هذه الاتجاهات عالميا، وليس من قبيل المبالغة أن القول إن هذا النمط امتد ليشمل الكثير من البلدان غير لبنان. الدور الذي لعبه الغرب في انهيار يوغوسلافيا عزز الهويات العرقية والثقافية ومطالبها السياسية على حساب السياسة بمعناها الأوسع. وبموازاة ذلك، عزز تدخل الغرب العسكري فكرة أن هذه الجماعات لا يمكنها تسوية نزاعاتها الداخلية من دون وصاية ورعاية الدول الغربية. عانى مفهوم السيادة بالدرجة الأولى من هذه النزعة، و تأكل من جراء تصرفات و إطماع المجموعات العرقية والثقافية وتدخلات الدول الغربية. استبدلت إرادة تقرير المصير بمطالب لمزيد من التدخل، وزايدت المجموعات المختلفة على بعضها في لعب دور الضحية الذي تحبذه وسائل الإعلام الغربية والسياسيين هناك. يسمح الغرب لنفسه بالحق في التدخل لأسباب أخلاقية في أوضاع لا يفقهها، مزيدا من تعقيد هذه القضايا.

في لبنان ، أدى التدخل الغربي منذ الفترة التي سبقت اغتيال الحريري و حتى ألان إلى تفاقم الوضع، مما زاد من تعقيد العلاقة بين الإطراف المتنافسة. ليست هذه حجة لإنحاء اللوم عن اللبنانيين أنفسهم، فهم المسئولين بالدرجة الأولى عن تدبير شؤونهم و حل نزاعاتهم. الفشل في التوصل إلى توافق في الآراء حول كيفية إدارة البلاد في أعقاب الانسحاب السوري هو فشل تاريخي سيضطر اللبنانيون إلى تحمل عواقبه. وبرغم ذلك، فإن الدعم الغربي الصاخب لثورة الأرز أعطى فريق 14 آذار الانطباع بأنه يمكنه ترجمة ذلك الدعم إلى سيطرة فعلية على لبنان. كان من الأفضل بكثير التوصل إلى اتفاق مع أخصامهم لوضع أسس لنوع مختلف من الحياة السياسية. حزب الله من جانبه لم يتحول من تنظيم الشيعي مسلح إلى حزب سياسي، وفاتته فرصة أخرى ليتحول من ملحق لسوريا وإيران إلى قوة مستقلة في السياسة اللبنانية. قايض كل من الطرفين استقلالهما بحالة من عدم النضج السياسي تعتمد على الدعم الخارجي.

وهكذا نشأت المحكمة الخاصة بلبنان و السياسة الداخلية في لبنان في مأزق ، وبينما يعلق اللبنانيون أمالهم على النظام القانوني الدولي لتحقيق العدالة. المحكمة مختلطة بطبيعتها، تتشكل من خليط من قضاة ومدعين عامين لبنانيين ودوليين، ولكنها تطبق القانون اللبناني و ليس القانون الجنائي الدولي، مع استثناء مهم وهو استبعاد عقوبة الإعدام والعمل ألقسري. الإحكام التي ستصدر من قبل المحكمة ستنفذ في دول أخرى غير لبنان، يختارها رئيس المحكمة من قائمة دول 'متطوعة'. الأمين العام للأمم المتحدة مسئول عن تعيين القضاة والمدعين العامين، وذلك بالتشاور مع القضاة الدوليين والحكومة اللبنانية.

  وكان قد تقرر عقد مداولات المحكمة في لاهاي "لاعتبارات العدالة والإنصاف ، وكذلك الأمن والكفاءة الإدارية".(4) وهذا  واحد من أكثر البنود غرابة في قانون المحكمة. بداية، يدين هذا البند بصراحة كامل النظام القضائي اللبناني ، ويبدو هذا نقدا تتفق عليه الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية. تبرير الطابع الدولي للمحكمة ليس احتمال مشاركة دول أخرى في قضية اغتيال الحريري، ولكنه مبني على عدم كفاءة وعدم عدالة الجسم القضائي في لبنان. وعلاوة على ذلك، أدت مادة في مذكرة التفاهم المقترحة بين المحكمة والدولة اللبنانية إلى جدل كبير، فهي تعطي المدعي العام للمحكمة حرية عمل دون قيود داخل لبنان، من دون موافقة مسبقة، وبغض النظر عن أي حصانة قانونية أو برلمانية أو سيادية. كل هذه الانتهاكات لسيادة لبنان والقانون مبررة  " بأن معايير المحكمة العدلية، بما فيها مبادئ مراعاة الأصول القانونية، موافقة لأعلى المعايير الدولية للعدالة الجنائية". (5)

ولكن ما هي هذه المعايير الدولية؟ كيف يمكن لأي نظام قانوني أن يوجد بمعزل عن السياق السياسي الذي يعطيه معنّى و يتيح له الاستجابة لتغير طبيعة المجتمع الذي يخدمه؟ يحاول المجتمع الدولي والحكومة اللبنانية تصوير المحكمة على أنها ليست  سياسية بسبب طبيعتها التقنية الموافية  لهذه المعايير الدولية. كلاهما على خطأ. الحكومة اللبنانية تمس بجوانب هامة من السيادة الوطنية في موافقتها على تلك الشروط ، وتعزز الأمم المتحدة بالتواطؤ مع الغرب والدول العربية مفاهيم التبعية التي تنطوي عليها مثل هذه الترتيبات الانتدابية. تصور الأمم المتحدة ونظام العدالة الدولية على إنهما مؤسسات محايدة يمكنها أن تساعد الدول غير الناضجة لتحكم أنفسها. في الواقع، من الأرجح إن يؤذن هذا لبدء حقبة جديدة من شأنها أن تزيد من التبعية السياسية وخنق التنمية في الدول التي تدخل في مثل هذه العلاقات التبعية.

يعطي ميثاق المحكمة لها سلطة توسيع اختصاصها ليتجاوز جريمة اغتيال الرئيس الحريري "إذا وجدت أن الاعتداءات الأخرى التي وقعت في لبنان بين 1 أكتوبر 2004 و 12 ديسمبر 2005 متلازمة وفقا لمبادئ العدالة الجنائية ، وإذا كانت طبيعتها وخطورتها على غرار الاعتداء الذي وقع في 14 شباط  2005 ".  يشير هذا إلى سلسلة من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي سبقت اغتيال الحريري وتلتها، و استهدفت العديد من السياسيين والصحفيين من القوى المناهضة لسوريا. هذا يعطي الانطباع بأن اللبنانيين يطالبون المحكمة الدولية ليس فقط بتحقيق العدالة، بل أيضا بكتابة تاريخهم، تاريخ يمكن للسياسة أن تنشا منه. هذه السلطة لا ينبغي أبدا أن تسلم إلى وكالة خارجية، حتى ولو كانت تقنية و ذات طابع غير سياسي. هذا تنصل صريح من مسؤولية اللبنانيين عن تقرير قدرهم بأنفسهم، لن يؤدي إلا إلى زيادة اعتمادهم على الدول الأخرى. يغذي الغرب هذه التبعية ويستغلها في مواجهته مع إيران وسوريا ، ولكنه لا يملك في الواقع سياسة واضحة في الشرق الأوسط ، وخصوصا بعد الفشل الكارثي الأميركي في العراق. ليس من الصعب أن نرى عمل المحكمة يخضع لتقلبات العلاقات الدولية، وخاصة بين الدول الغربية ودول الشرق الأوسط ، فلماذا نخضع لهذه السلطة الواهية؟

 

 

كارل شرو 2009

   1http://www.timesonline.co.uk/tol/news/world/article436827.ece

   2http://www.timesonline.co.uk/tol/news/world/middle_east/article430951.ece

   3http://www.culturewars.org.uk/index.php/site/article/the_illogical_end_of_multiculturalism/

   4http://www.un.org/apps/news/infocus/lebanon/tribunal/factsheet.shtml

   5http://www.un.org/apps/news/infocus/lebanon/tribunal/factsheet.shtml